20‏/02‏/2011

لحـقُّ والعـَدالةُ

لحـقُّ والعـَدالةُ
مجزوءة السياسة إعداد: ذ. أحمد الفرَّاك
تقديم
إذا كانت الدولة تقوم بتنظيم علاقات وتفاعلات الأفراد فيما بينهم داخليا وفيما بينهم وبين غيرهم خارجيا، فإن هذا التنظيم يتأسس على جملة من المعايير الأخلاقية ومجموعة من القواعد القانونية. الغاية من هذه وتلك هي حفظ الحقوق الفردية والجماعية واستتباب العدالة. إلا أن العلاقة بين الحق والعدالة ظلت ملتبسة وغير واضحة مما يستدعي طرح الإشكاليات المتعلقة بمشروعية قواعد الحق كما يلي:
* ما مصدر الحق؟ هل الحق معطى فطري وُلد مع الإنسان، أم أنه مَكسب ثقافي أدركه الناس بفضل التطور الاجتماعي؟ هل الحق طبيعي سابق على ظهور الدولة أم أنه وضعي من نتاجها؟
* إلى أي حد تكون العدالة أساس الحق؟ وهل تكفي العدالة القانونية لحفظ الحق؟
* أيهما تستهدفه العدالة: المساواة أم الإنصاف (العدل)؟ التسوية بين الجميع مهما يكن من اختلاف أم إعطاء كل ذي حق حقه (القسط)؟



المحور الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي
1- موقف طوماس هوبس: الحق طبيعي
يتأسس الحق في نظر هوبس على ما هو طبيعي مرتبط بماهية الإنسان، وهو ما يجب أن يمتلكه ويتمتع به كل فرد بحُكم طبيعته الأصلية وليس بحكم ثقافته وانخراطه الطوعي أو الكرهي في المجتمع، والفرق بين الحق والقانون حسب هوبس هو "أن الحق يكمن في حرية القيام بفعلٍ ما أو الامتناع عنه، في حين أن القانون يُقرر أحدهما ويُلزِمنا به، بحيث يختلف القانون عن الحق كما يختلف الإلزام عن الحرية، ويمثلان طرفي نقيض"، أما الحاجة إلى الدولة فهي ليست وضع الحق وإنما الحفاظ عليه وضمان استمراره وصونه من الضياع، مع الحرص على عدم العودة إلى حالة الحرب الدائمة، حالة "حرب الكل ضد الكل" التي كان يعيش بموجبها الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، لا يحكمه إلا قانون واحد ووحيد هو قانون الغاب: البقاء للأقوى، وليس له سوى حق وحيد هو "حق القوة".
2- موقف جون جاك روسو: الحق طبيعي يسنده القانون الوضعي
أساس سلطة الدولة هو التعاقد الاجتماعي، ووظيفة هذا التعاقد هي حماية الحق، وأساس الحق هو الطبيعة البشرية على ما خلقها الله ابتداء، يقول روسو: "إن ما هو جيد وموافق للنظام هو كذلك بحُكم طبيعة الأشياء، وبمعزلٍ عن الاتفاقات بين الناس. إن كل عدالة تأتي من الله الذي هو مصدرها الوحيد"، لكننا لم نحسن استقبالها من الله مما يستوجب ضرورة سن القوانين ووضع التشريعات التي تضمن حفظ الحق وصيانة العدالة. وبالتالي فالحق هو تلك الامتيازات التي كان يملكها الإنسان قبل تأسيس الدولة وجاء القانون ليقرها ويوجبها ويفرضها عبر مؤسسات الدولة، مما يفيد وجوب وضع القوانين لضمان الحق، ولا يمكن أن يستغني الحق عن القانون إذ "لا يوجد عدل في ذاته، بل العدل هو التعاقد"...
3- موقف هانز كلسين: الحق وضعي (ومتغير)
على خلاف الموقفين السالفين، يرى أصحاب الاتجاه الوضعي أن العدل والحق لا معنى لهما إلا في نطاق القواعد القانونية الوضعية، ولا عدالة إلا ما يضمنها الدستور، إذ القانون وحده يحدد ما هو مشروع وماهو غير مشروع، وهو وحده إلى جانب المؤسسات القضائية والتنفيدية يشكل قوة الإلزام والنظام الضرورية لإنشاء الحقوق وحفظها في الواقع. والحق القائم ليس إلا تعبيرا عن ميزان القوى في بنية المجتمع، وهو مُعَرَّض للتغير والتبدل تبعا للتوازانات الواقعة في ميزان القوى المسيطرة في المجتمع... وخلاصة الموقف: "لا حق إلا ما يحميه القانون".
المحور الثاني: العـدالة أساس الحـق
1- موقف أرسطو: العدل أساس الحق
العدالة عند أرسطو توسُّط ذهبي ب"لا إفراط ولا تفريط"، وهي سلوك عادل "يوافق القانون ويكفل المساواة"، ونقيضها الظلم الذي هو "سلوك لاقانوني ومنافي للمساواة"، فالرجل العادل هو الذي يطبق القانون في إطار المساواة. يقول أرسطو: "كل الفضائل توجد في طَيِّ العدل"، ولإيجاد حياة مِلؤها العدالة باعتبارها "فضيلة كاملة" وَجب الخضوع للقوانين الأخلاقية من أجل الحفاظ على المصالح العامة، وذلك عبر ضمان:
- العدالة التوزيعية: أي توزيع الثروات بين المواطنين بحسب مؤهلاتهم...
- العدالة التعويضية: وتعني تعويض الأفراد الذين لحقتهم بعض الأضرار بسبب خرق القانون أو عدم تطبيقه.
2- موقف باروخ سبينوزا: العدالة القانونية هي التي تضمن الحق
إذا كانت الغاية من الدولة هي تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء وتحقيق مبدأ التعايش الآمن والسلمي، فإنه "على عاتق الحاكم وحده تقع مهمة المحافظة على هذا المبدأ" مادام القانون يبيح له أن يفعل ما يشاء دون أن ينتهك حق الرعية، وإذا كان "العدل هو استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حقٍّ ما يستحقه طبقا للقانون المدني، والظلم هو أن يسلب شخص متذرعا بالقانون (باسم القانون) ما يستحقه شخص آخر طبقا للتفسير الصحيح للقوانين"، فإن مهمة إحقاق العدالة تقع على عاتق الدولة، وذلك عبر سَنِّها لمختلف القوانين والتشريعات التي تُلزم الجميع باحترام العدالة والخضوع لمقتضياتها والتمتع بالحريات الفردية والجماعية دون إلحاق الضرر بالغير، فهي وحدها تملك القدرة والسلطة على وضع القانون وعلى تنفيذه بالمساواة بين الناس. وبناء عليه لا يتحقق العدل إلا بالعدالة القانونية للدولة.
3- موقف شيشرون: العدالة القانونية وحدها لا تكفي...
إذا ركزت المواقف السابقة على ربط العدالة بالقانون فإن الواقع يشهد حسب موقف شيشرون بعدم كفاية القانون لإقرار العدل في المجتمع، إذ ليس كل ماهو قانوني حق، وليس كُل حق تكفلُه القوانين الوضعية، إذ قد نجد تشريعات قانونية ظالمة كقانون الطغاة وقانون الاستعمار مثلا، ثم أن الحق الأمثل الذي تنشده الإرادة البشرية لم يستطع القانون أن يضمنه فضلا عن أن يحميه. مما يفضح قزمية القانون مقارنة مع هيبة الحق، لهذا يرى شيشرون أن الحق طبيعي ينبع من داخل الإنسان، مرتبط بعالم الفضيلة ومتعالي عن عالم المواضعة والإلزام، ويُرد في النهاية إلى حق واحد يقوم على قانون واحد يُشرع ما يجب وما يُمنع طبقا لمقتضيات طبيعة الإنسان، و"لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة...وطالما لم يقم الحق على ما هو طبيعي فإن جميع الفضائل ستتلاشى".
وأخيرا يمكن القول مع إريك فايل: "إن الحق والقانون والعدالة هي ألفاظ لا تحصل على معناها إلا داخل جماعة ما، فالجماعة وحدها هي ما يمكن أن تكون عادلة أو غير عادلة".
المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف
1- موقف أفلاطون: العدالة انسجام
تتحدد العدالة في تصور أفلاطون كفضيلة يتحقق بواسطتها الانسجام والتوازن بين القوى المتنافرة، فعلى مستوى الفرد تعني العدالة ذلك النظام والتوافق بين مكونات النفس الثلاث (القوة العاقلة، القوة الغاضبة، القوة الشهوانية)، وعلى مستوى الدولة ترادف العدالة ذلك الانسجام بين الطبقات الثلاث (طبقة الحكام، طبقة الجيش، طبقة العبيد)، إذ لكل صنف من الناس عمله ولا يجوزله التدخل في شؤون الآخرين، يقول أفلاطون: "من العدل أن ينصرف المرء إلى شؤونه دون أن يتدخل في شؤون غيره"، والعدالة هي التي تجعل جميع المواطنين يؤدون وظائفهم بمحض مؤهلاتهم وانتمائهم الطبقي، دون أن يعتدي أحد على أحد، وذلك من أجل "إضفاء الكمال على الدولة".
2- موقف ألان إميل شاريتي: العدالة مساواة
لا يتحقق الحق ولا تتأسس العدالة إلا داخل مبدإ المساواة، فالحق هو المساواة عينها، والعدالة هي القوانين التي يتساوى أمامها جميع الناس، بغض النظر عن انتمائهم الثقافي والجغرافي والسياسي...إذ يجب أن يخضع الجميع لنفس القوانين وأن يتعاملوا نفس المعاملة وأن يستفيدوا نفس الامتيازات بالتساوي، وإلا فلا فائدة في القوانين والتشريعات ولا معنى لإلزاميتها، يقول ألان: "لقد ابتُكِر الحق ضد اللامساواة...أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون شيئا بئيسا".

3- موقف ماكس شيلر: المساواة ظُلم
على عكس موقف ألان يرفض شيلر الفكرة الأخلاقية القائلة بربط العدالة بالمساواة، هذه الأخيرة –في نظره- تُعيق الاختلاف العقلي والتفاوت الاقتصادي والتفاضل الاجتماعي، وتجعل الناس متساوين مساواةً مطلقة، متجاهلة تباين قدراتهم وإمكاناتهم ورغباتهم. إنه لمن الجور (الظلم) ومن دواعي الحقد والكراهية أن ننـزع من الوجود اختلاف الناس في المواهب والاستعدادات والكفاآت لكي نتحدث عن إمكان تحقيق المساواة الأخلاقية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية...
إن العدالة الحقيقية هي التي تعترف بالفروق الفردية والجماعية، وتحافظ عليها. ولا ينكر هذا إلا مَن يعيش في وضع سيئ يخشى مِن عزلته وضعفه. يقول شيلر: "الذي يخشى الخسارة، هو وحده الذي ينشد العدالة والمساواة العامة".
4- موقف جون راولس: العدالة مساواة وإنصاف
يقوم مبدأ الشراكة بين مواطني دولة التعاقد الاجتماعي -وتتأسس العدالة بينهم- على مبدأين اثنين هما:
- مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية.
- مبدأ التفاوت والتفاضل في وضعيات استثمار الثروة والسلطة، أوما يسميه راولس ب: "اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية". إذ ينهض رخاء المجتمع على أساس توزيع المهام واقتسام الامتيازات والتعاون على الإنجازات، بطريقة تستحضر الفروق الفردية والجماعية وتمكِّن من تحرير المبادرات واكتشاف الطاقات وتحسين الوضعيات بناء على التعاون الإرادي والتنافس الحر. ولعل هذا ما حدا بأرسطو إلى تفضيل الإنصاف على المساواة نظرا لكونه الشرط الأساسي لتجاوز عيوب تطبيق العدالة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق