20‏/02‏/2011

الـدولـة

الـدولـة
مجزوءة السياسة إعداد: ذ. أحـَمد الفراك
تقديم :
لكي يعيش الناس في مجتمع يسوده النظام والاستقرار وتنتظم علاقات أفراده على أساس الحفاظ على المصلحة العامة التي يتقاسمها الجميع٬ لابد من إنشاء كيان قانوني وسياسي وأخلاقي يمتلك السلطة والسيادة التي تشمل الجميع٬ توكل إليه مهمة حفظ الأمن وضمان الحريات وتنظيم العلاقات بين الأغيار، فكانت الدولة هي ذلك الجهاز الضخم الذي تنسب له وظيفة التنظيم والتدبير والتسيير فيما يتعلق بالشؤون العامة لجموع مواطني بلد ما. لكن إذا كانت وظيفة الدولة واضحة من الناحية النظرية فإنها واقعيا تتلبسها مجموعة من الإشكالات نذكر منها:


- على أية مشروعية ترتكز الدولة في وجودها؟ أو بعبارة أخرى ما هي المبررات التي تخول للحاكم ممارسة حكمه؟ وما الغاية من وجود الدولة؟
- على أي أساس تقوم سلطة الدولة؟ أو كيف تمارس الدولة تسييرها للشأن العام؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكومين؟
- إذا كان واجب الدولة هو حماية الحق فهل يجوز لها أن تستعمل العنف؟ وإذا ما كان جائزا فهل هو مطلق أم مُقنن؟
المحور الأول: مشروعية الدولة و غايتها
1- موقف ماكس فيبر: تنقسم أنواع المشروعيات السياسية التي تستند إليها أنظمة الحكم إلى ثلاثة أنواع/ أسس هي:
- المشروعية التقليدية: وهي التي تستمدها الدولة عن طريق الوراثة٬ حيث يرث الحاكم سلطته عن أبائه وأجداده دون أن يختاره الشعب، وإنما يفرض نفسه متعاليا عن الإرادة العامة لمجموع المواطنين، و لا يجيز الاعتراض عليه أو تغييره٬ و تسمى سلطته ب "سلطة الأمس الأزلي"...
- المشروعية البطولية: وتسمى المشروعية الكارزمية، وتقوم على المزايا الشخصية والإنجازات الكبيرة لشخص الحاكم الذي يتمتع بنفوذ خاص يجعل الناس يلتفون حول القضية التي يدافع عنها، كأن يكون عالما أو زعيما سياسيا أو مناضلا كبيرا أو ديماغوجيا... و يفرض احترامه على الناس طواعية .
- المشروعية الشرعية: وتسمى المشروعية الديمقراطية أو العقلانية، وهي المشروعية التي تُستمد من الإرادة العامة للشعب عن طريق التعاقد والاختيار٬ فتكون سلطة الحاكم قائمة على أساس الامتثال للواجبات والالتزامات المطابقة للقوانين٬ فيُنظر إلى الحكم كخدمة للدولة و إلى الحكام كأجراء عند الشعب ليس إلا.
2- موقف باروخ اسبينوزا: ليست الغاية من الدولة هي السيادة والتخويف والسيطرة والإكراه، وإنما هي حفظ حقوق الأفراد وحماية مصالحهم وضمان حرياتهم وأمنهم، إذ لا فائدة من الدولة إن لم تحرر الفرد من الخوف والرعب والترهيب، يقول سبينوزا: «الغاية من تأسيس الدولة ليست هي تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وﺁلات صماء»٬ ويعني أن وجود الدولة لا يقتضي احتقار المواطنين والاستخفاف بمطالبهم وإرغامهم على الطاعة، وتوظيف الأساليب الخسيسة لتركيعهم وسلبهم حرياتهم، فذلك مناقض للغاية التي أُنشئت من أجلها، وهي صون وتنظيم الحريات الفردية والجماعية، وليست قمعها ومنعها، يقول سبينوزا: "الحرية إذن هي الغاية من قيام الدولة".
ولما كان من المستحيل أن تتواطأ جميع أراء الناس وأفكارهم وكان من المستحيل أيضا أن يُثبت الفرد الواحد أن له العلم بكل شيء وقادر على كل شيء(الاستبداد)٬ فإن الطريق إلى تحقيق السلام والأمن هو تنازل الأفراد عن حقهم المطلق في أن يتصرفوا وفق إرادتهم المطلقة لصالح سلطة عليا تصون حقوقهم جميعا وفق القوانين المتعاقد عليها٬ شرط اعتماد العقل و نبذ أخلاق الحقد والعنف والخداع. دون أن يفيد ذلك تنازلهم عن حقهم في التفكير أو عن حقهم السياسي.
3- موقف توماس هوبز : وُلد الناس أحرارا و متساويين، غير أن هذا التساوي لم يثبت مع حالة الطبيعة التي تقوم على أساس الحرب الدائمة والفوضى والخوف والعنف والنزاع بين الأفراد، أو ما يسميه بالحرب المزرية أي "حرب الكل ضد الكل". لذلك اقتنع الجميع بوجوب البحث عن الوسائل الكفيلة بمساعدة الإنسان على تحقيق الأمن والاستقرار والسلم. فكان لزاما وقف استشراء العنف والانتقال بالتجمع البشري المهدد إلى مجتمع الدولة المنظمة. والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الانتقال هي "التعاقد الاجتماعي" الذي يضمن السلم والأمن بوجود حاكم أو مجلس حيث يتنازل الأفراد برضاهم عن حقهم الطبيعي المطلق (الحرية المطلقة) لفائدة الحاكم قصد ضمان باقي الحقوق والخروج من العيش وفق "حق القوة" إلى العيش وفق "قوة الحق" حيث تصان جميع الحقوق. وهذا التوافق بين الشعب والحاكم هو أساس سلطة الدولة الحديثة.


المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
كيف تمارس الدولة سلطتها في المجتمع؟
1- موقف لوي ألتوسير: تقوم سلطة الدولة حسب ألتوسير على الجمع بين جهازين متباينين هما:
●الجهاز القمعي: ويتكون من مجموعة من المؤسسات المتناسقة فيما بينها وهي: الحاكم، الحكومة، المحكمة، الإدارة، الشرطة، الجيش، السجن... وهو جهاز موحد و عمومي و ظاهر، ويمارس العنف المادي والمعنوي. ووظيفته هي تكريس سلطة الدولة وإكراه الناس على الطاعة...
●الجهاز الإيديولوجي: ويتكون من مجموعة المؤسسات التي تسهر على ترسيخ إيديولوجية الدولة، مثل: الإعلام، المدرسة، الكنيسة، الأحزاب... وهو جهاز موزع و مضمر وخاص ولطيف...
2- موقف نيكولا ماكيافيلي : في كتابه "الأمير" يرى نيكولا ماكيافيلي أن السلطة السياسية تقوم على الخداع والمكر والصراع، حيث يجب على الحاكم أن يمتلك القدرة على ممارسة سلطته بالجمع بين طريقتين مختلفتين ومتكاملتين هما:
◘طريقة القانون: أي على الأمير أن يضع القوانين التي تضمن له استمرار سلطته وإجبار الناس على الخضوع لهذه القوانين٬ فالذين يحترمون القانون هم بشر أما الذين لا يخضعون للقانون فهم بمثابة الحيوانات المتوحشة التي تستحق الردع و العقاب والمكر.
◘طريقة اللاقانون: أي حرص الأمير على استعمال وسائل البطش والتنكيل والتعذيب والقتل، بحيث يجوز له أن يخرق القوانين وينتهك الحقوق ويخون العهود ويعطل المواثيق ويضيع الأمانات.
إذن أمام الحاكم مختلف الوسائل والطرائق والأساليب بما فيها التظاهر بأخلاق الرحمة والتدين كي يحافظ على استمرار الدولة واستمراره هو نفسه في الحكم. مثلما عليه أن يكون مستعدا ليتحول إلى حيوان مفترس يبطش بمن يخالفه ولو خارج إطار القانون.
خلاف ابن خلدون الذي يرى أساس السلطة في الرفق والاعتدال والعمل بمقتضى النظر الشرعي والعقلي، وعلى الحاكم أن يتصف بصفات إنسانية نموذجية تؤهله لقيادة الرعية بالعدل والرحمة...
المحور الثالث: الدولة بين الحق و العنف
من أجل تحقيق السلم والأمن والعدالة تحتاج الدولة إلى تطبيق القوانين التي بموجبها يخضع الناس لصوت الحق٬ لكن استجابة الناس لنداء العدالة متفاوت حسب تفاوت المستويات التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية للأفراد والجماعات، مما يضطر الدولة لاستعمال أساليب الإكراه و الإجبار والعنف (وازع السلطان)٬ لكن استعمال هذا العنف قد يوقعها في تجاوز القانون وبالتالي انتهاك الحقوق وخيانة العهود٬ فيحصل الظلم، و الظلم ظلمات. مما يعيد طرح السؤال الإشكالي من جديد: إذا جاز للدولة أن تستعمل العنف بُغية ردع الأفراد الخارجين عن القانون فهل يُشترط عليها أن تتقيد بضوابط القواعد القانونية المتعاقد عليها أم أنها تستعمل قوتها وسلطتها بصورة مطلقة وغير مقيدة (التعسف)؟ أو قل باختصار: هل عنف الدولة مشروع؟ وهل مشروعيته مطلقة أم مقيدة؟
1- موقف ماكس فيبر: يرى ماكس فيبر في كتابه "عالم و سياسي" أنه إذا كانت "السياسة هي فن قيادة تجمع سياسي يسمى الدولة...أو التأثير الذي يمارَس في هذا الاتجاه" فإن وجود الدولة تاريخيا رهين بوجود العنف واستعماله، حيث لا تخلو مؤسسات الدولة من أجهزة متخصصة في استخدام وسائل وأساليب القمع و المنع و الإكراه٬ يقول تروتسكي: «تقوم كل دولة على العنف» ، ولا يتصور خُلُوها منه إلا من جهة المستحيل. ذلك أن تعاقد الأفراد فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية كان من أجل منع التظالم وضمان الأمن والاستقرار الجماعي، إلا أن هذا لا يتحقق إلا إذا احتكرت الدولة استعمال العنف٬ وخاصة العنف المادي فتكون هي مصدره الوحيد لتمنع جميع الأفراد والجماعات من استعماله مهما كانت مبرراتهم إلا بموافقتها. لكن لا يجوز لها ذلك إلا في إطار القانون.
على خلاف موقف ماكس فيبر الذي يدافع عن مشروعية العنف في إطار المواثيق المتعاقد عليها(العنف القانوني)، يتميز ماكيافيلي بالدفاع عن استعمال العنف بشكل مطلق سواء في إطار القانون أو في إطار اللاقانون مادامت الغاية من الدولة هي الحفاظ على سلطة الأمير مهما كان الثمن الذي سيدفعه الأفراد ومهما كانت العهود المبرمة معهم...
2- موقف فردريك إنجلس: انطلاقا من التصور الماركسي لإشكالات الدولة يعتبر فرديريك إنجلس أن وجود الدولة لا يرتبط بالفكر الأخلاقي أو بالعقل المجرد، وليست الدولة إرادة عامة حرة وكلية كما يرى هيغل، وإنما هو نتاح للمجتمع في مرحلة معينة من تطوره حيث أسهمت التناقضات المجتمعية وتفاوت المصالح بين الناس في فرض الحاجة إلى الدولة من أجل تقليص أشكال الصراع و تنظيمها، أي أن الدولة بِنت صراع الطبقات الاجتماعية بحيث الطبقة الأقوى هي التي تسود وتسيطر. لكن القضاء على الصراع وتجاوز التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وإعادة تنظيم المجتمع على أسس اشتراكية سيُعجل برحيل الدولة أو الاحتفاظ بها في المتحف الأثري.
3- موقف جاكلين روس: دولة الحق
لا يحق للدولة أن تمارس العنف فقط في إطار القانون، إذ لا يكفي القانون بل يجب أن تكون هي نفسها دولة حق، تحفظ كرامة الشخص وتمارس السلطة بطريقة معقلنة، تفصل بين السلط، وتطبق القانون على الجميع، وتُجسد الحق والقانون واقعا يوميا يعيشه الناس في حياتهم وليس مجرد شعارات ودساتير وخطب.........................

خلاصة: إذا كان لا يتصور خُلو الدولة من أجهزةٍ تستعمل العنف فيجب أن يكون هذا الاستعمال من طرف الدولة الديمقراطية، أي دولة الحق والقانون، التي تأخذ على عاتقها حماية الحق في إطار القوانين المتعاقد عليها مع الشعب٬ باعتبارها تجسد إرادته العامة. يقول بليز باسكال: «العدالة دون قوة ضعف والقوة دون عدالة تسلط»، ويقول سيدنا علي: "لا خير في حق لا تدعمه القوة".

0 التعليقات:

إرسال تعليق