20‏/02‏/2011

الشـَّـخـــص

الشـَّـخـــص
مجزوءة 1: الوضع البشري إعداد: ذ. أحمد الفراك
مقدمة
يتميز الوضع البشري بالتعقيد والغموض والتداخل، فالإنسان الفرد يحمل معه وعيه بذاته ككيان متفرد له خصائصه النفسية والوجدانية والاجتماعية تنسب له مسؤولية أفعاله الصادرة عنه، كما أنه يأخذ قيمة خاصة عندما ينظر إليه كذات واعية، حرة و مسؤولة لها كرامة تميزها عن جميع الموجودات، تعي ذاتها و تعتز بقيمتها الأخلاقية، لكنها لا تلغي كونها حبيسة جملة من القيود الموضوعية التي يفرضها العالم الخارجي بلا هوادة. من هنا تنبع الإشكالات التالية: كيف تتحدد هوية الشخص؟ ومم يستمد قيمته؟ وهل الشخص حر في بناء شخصيته أم أنه خاضع لمختلف الضرورات المحيطة به؟


المحور الأول: الشخص والهُوية
موقف جول لاشوليي: الهُوية مزاج وذاكرة
يعتبر جول لاشوليي أن المحدد الرئيس للشخص هو هويته كذات متطابقة مع ذاتها ومتميزة عن غيرها، وأن هذه الهوية تبقى متوحدة في الزمان كنتيجة لعمل مجموعة من الآليات النفسية التي تحمي وحدة الشخص، أهمها: آلية وحدة المزاج وآلية الذاكرة التي تحفظ ماضي الشخص وتوصله بحاضره. أما عن سؤال مدى ثبات هوية الشخص أو تغيرها؟ فجُول لاشوليي يؤكد أنها لا تُعطى بشكل أولي أصيل في شعورنا مثلما أنها ليست نتاجا عبثيا، وإنما هي "بنية نفسية"، نبضٌ متصلٌ بمزاجنا الشخصي وبذاكرتنا. كل ما يضاف إلى الذاكرة ينتمي إلى الأنا الذي يحدد طبيعة ردود أفعالنا في مختلف الحالات النفسية . وكلما تذكر الإنسان كلما تولد لديه الشعور بوحدته النفسية الثابتة حتى وإن طالتها الظروف المتغيرة.
من خلال هذا الموقف ينتقد لاشوليي التصور الماهوي الثابت لهوية الشخص، ويثبت أن أساس الهوية هو حفظ الطبع وترابط الماضي بالحاضر في الذاكرة.
موقف جون لوك: هُوية الشخص في وعيه وذاكرته
يرى "جون لوك" أن مايجعل الشخص "هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان "إذن فلوك و "ديكارت" مجمعان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمربالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية لا تقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا.
موقف سيجموند فرويد: هُوية الشخص لاشُعورية
ليس الوعي الذي يدافع عنه ديكارت وجون لوك سوى الجزء السطحي من الشخصية، هذه الأخيرة التي هي عبارة عن بنية نشيطة تتشكل من ثلاثة عناصر متصارعة على نحوٍ مستمر، هي العنصر الشهواني (الهو)، والعنصر العقلاني (الأنا)، والعنصر الأخلاقي (الأنا الأعلى)، وطبيعة الصراع تتحدد بصورة لا شعورية، لا يعيها الشخص ولا يملك القدرة على التحكم فيها، إنه عاجز تماما عن الوعي بهويته وتكوين شخصيته. إن اللاشعور هو الجانب الأوسع والأعمق في شخصياتنا وهو المسؤول عن جميع اختياراتنا ومواقفنا وسلوكاتنا، حيث يتواصل أثره وتحكمه فينا ليلا ونهارا، نوما ويقظة.
بهذا يكون التحليل النفسي قد تجاوز التصور الماهوي الثابت لهوية الشخص إلى تصور سيكولوجي يرهن الهوية باللاشعور.
المحور الثاني: قيمة الشخص
موقف إيمانويل مونييه: الشخص ذات وليس أداة
يرى أنصار المذهب الشخصاني أن الشخص ليس موضوعا مثل باقي الموضوعات الخارجية وإنما هو كينونة نفسية متفردة تتميز بالوعي والإرادة، إذ يستحيل تعريف الشخص أو النفاذ إلى عمق ذاته ، يقول مونيي: "إن الشخصية ليست موضوعا، بل هي بالذات ما لا يمكن في أي إنسان أن يُعامل بوصفه موضوعا"، أي أن كل شيء من أشياء العالم الخارجي يمكن تعريفه والإحاطة به إلا أن يكون شخصا، لأن الشخص يتمنَع عن المعرفة مهما حصلنا حوله من معلومات حول مِزاجه وهيئته وأعراضه، إنه يحتفظ بذاتيته دون إدراك الغير، وهذا الأخير لا يستطيع معرفة "الأنا" كما هوَ، ولا أن يُعبِّر عنه في كُلِّيته ولا أن يتفهمه في حقيقته. أو بعبارة موجزة: قد نعرف عن الشخص لكننا لا نستطيع معرفة الشخص، ذلك أن ثروة الشخص لا نهائية. فلا شيء مما يعبر عنها يستنفدها ولا شيء مما يشرطها يستعبدها...إن الشخص نشاطُ حركةِ شَخْصَنةٍ مناهضة لكل التحديدات.
موقف إيمانويل كانط: الشخص غاية في ذاته
تنقسم الموجودات في الكون إلى قسمين: قسم الموجودات العاقلة، وقسم الموجودات غير العاقلة، فالموجودات العاقلة وحدها تنفرد بقيمة مطلقة وتستحق أن تُسمى أشخاصا، بينما باقي الموجودات فليست لها سوى قيمة استعمالية نسبية، وتسمى: أشياءً، الأولى تنفرد بوضع اعتباري متعالي ومقدس لا يقبل الاستغلال أو الاستبدال من أجل مصلحة ما كيفما كانت، والثانية تُوضع بطبيعتها وسيلة من أجل خِدمة الإنسان الذي هو غاية في ذاته يستحق التقدير والاحترام لكرامته الآدمية وليس لامتلاكه الأشياء. يقول كانط: "تصرَّف دائما بطريقة تعامل بمقتضاها الإنسانية في شخصِك، كما قي شخصِ غيرك، باعتبارها غاية وليس أبدا باعتبارها وسيلة"(1) . إن الشخص غاية في ذاته وليس موضوعا أو وسيلة تخضع للاستعمال ثم تنتهي صلاحيتها. إن قيمة الإنسان لا تُقدر بثمن ولا تقبل التوظيف من أجل مصلحة إرادة أخرى.
عل خلاف هيغل الذي يرى أن قيمة الشخص مستمدة من اندماجه في الجماعة وامتثاله للواجب القانوني والأخلاقي الذي تحدده تشريعات المجتمع. فالتصرفات الصالحة هي التي تكون موافقة للقانون، والتصرفات الشائنة هي المنافية له. لذلك على الشخص أن ينفتح على الجماعة وأن يمتثل للواجب.
المحور الثالث: الشخص بين الاختيار والاضطرار
موقف سبينوزا: لا حرية للشخص
انسجاما مع التصور الموضوعي الذي يعتبر الشخصية مجرد انعكاس ونتيجة لإكراهات وضغوط موضوعية متنوعة: بيولوجية، اجتماعية، وراثية، ثقافية، اقتصادية وسياسية، يرى باروخ اسبينوزا أن الشخص ليس ذاتا حرة، بل هو نتاج ضرورات وحتميات خارجية، حيث شَبَّه دعوى حرية الإنسان بدعوى حرية حَجرة متدحرجة مِن على مُرتفع نتيجة دفعة خارجية، أي بفعل قوة خارجية مُحرِّكة وليس اختيارا من ذاتها. أما الذين يتبجحون بامتلاك الحرية فهم –حسب سبينوزا- يجهلون الأسباب الخارجية التي تحددهم حتميا. وإلا هل يُقبل أن نعتبر الطفل الذي يبكي طلبا للحليب حرا في اشتهائه أو الجبان الذي يهرب من المواجهة حرا في فراره؟
موقف العلوم الانسانية: تدويب الإنسان في حتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته
بانفصالها عن الفلسفة توجهت العلوم الإنسانية إلى دراسة الإنسان فجعلت منه موضوعا للمعرفة بعدما كان ذاتا عارفة، وفضحت ضُعفه لما اكتشفت أنه مجرد صورة منعكسة عن المحددات الموضوعية المحيطة به، فهو سوسيولوجيا نتيجة حتمية لعملية التنشئة الاجتماعية التي تُلقنه كيفية الإحساس والتفكير والتصرف وتُدمجه في المجتمع عبر آليات التكيف والتقمص والقولبة الذهنية، حتى يصير جزءا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع. وهو اقتصاديا (على الأقل في التصور الماركسي) جزء من البنية المادية للمجتمع تصنعه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وهكذا باقي فروع المعرفة الإنسانية حتى أضحى الإنسان شبحا بلا معنى، وآلة تُشحن وتُستعمل، فانمحت هيبته وكأنه كان مرسوما من الرمال (حسب تعبير ميشيل فوكو)، فظهرت أصوات تعبر عن هذا الذوبان والاختفاء بمثل عبارة "موت الإنسان" التي تلخص فقدانه لتلك الهالة من التحرر التي كان يَدَّعيها ويزعُمها قبل أن تُنتزع منه.
موقف سارتر: الإنسان محكوم عليه بالحرية
على خلاف المواقف السابقة يؤكد سارتر أن الشخص إنسان صَنع ذاته بذاته، ذات حرة ومنفتحة على إمكانيات لا نهائية، لأن هويته تتحدد بالمشروع الذي يختاره لنفسه في المستقبل، فهو دائم التجاوز لوضعيته الأصلية بواسطة الأنشطة التي يمارسها مادام وجوده سابق لماهيته. يتميز بالتعالي على وضعيته، إذ بواسطة الفعل والحركة يستطيع أن يختار ماهيته بنفسه، وبالتالي مشروعه الذي يريد، يقول سارتر: "الإنسان مشروع لا يوجد في سماء المشروعات مشروع مثله". لهذا انتقد سارتر المنهج الذي يختزل الإنسان في بُعد واحد مطلق، لأنه يغفل أبعاد حقيقية أخرى تحدد ماهيته، ويدافع سارتر عن حرية الإنسان لكونها تشكل جوهر وجوده، وبناء على ذلك يتحمل مسؤولية أفعاله، وهذا لا يعني غياب الضرورات الموضوعية وإنما يعني أن الشخص يحتفظ بالقدرة على التجاوز وصناعة الذات وإثبات الحرية مهما كانت الظروف والإكراهات، يقول سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية"، ويقول أيضا: "إن البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يصنع من نفسه جبانا".
في الأخير لا يمكن للشخص إلا أن يكون حرا إذ على حريته تترتب مسؤوليته على أفعاله، لكن حريته رهينة بضرورة مواتاة الأسباب الداخلية والخارجية التي يستحيل إلغاؤها أو تجاهلها، بمعنى أن حريته مشروطة بمختلِف الحتميات التي تحدد وجوده. لكن السؤال الذي يُطرح بناء على ذلك هو: كيف يُوَفَّق الإنسان إلى تحقيق تلك المواتاة دون أن يفقد حريته؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق